الموت ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم
المهندس / محمد صلاح

الموت ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم
ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعدما رجع من حجة الوداع،
جعل مرض الموت يشتد عليه يوماً بعد يوم، وهو في كل كلمة يتكلمها ونظرة ينظرها يودع هذه الدار، ولما اشتدت عليه الحمى وأيقن بالنقلة للدار الأخرى أراد أن يودع الناس فعصب رأسه، ثم أمر الفضل بن العباس أن يجمع الناس في المسجد فجمعهم، فاستند صلى الله عليه وسلم إليه حتى رقى المنبر، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس! إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم ولن تروني في هذا المقام فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ولا يقولن قائل: إني أخشى الشحناء ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له علي أو حللني، فلقيت ربي وليس لأحد عندي مظلمة).
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى إلى بيته وبدأت الحمى تأكل جسده وهو يتحامل على نفسه، ويخرج إلى الناس ويصلي بهم، حتى صلى بأصحابه المغرب من يوم الجمعة، ثم دخل إلى بيته، وقد اشتدت عليه الحمى، فوضعوا له فراشاً فانطرح عليه، وظل على فراشه تكوي الحمى جسده، ثم ثقل به مرض الموت، وهو على هذا الفراش، واجتمع الناس لصلاة العشاء، وجعلوا ينتظرون إمامهم صلى الله عليه وسلم ليصلي بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد هده المرض، يحاول النهوض من فراشه فلا يقدر.
فلما أبطأ عليهم، جعل بعض الناس ينادي: الصلاة! الصلاة! فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله
ثم قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك) فتأمل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حرارة جسده تمنعه من النهوض فقال لهم: (صبوا لي ماءً في المخضب)
وهو إناء كبير، فصبوا له الماء وجعلوا يصبون الماء البارد من القرب فوق جسده صلى الله عليه وسلم، فلما برد جسده وشعر بشيء من النشاط جعل يشير لهم بيده، فأوقفوا عنه الماء، فلما اتكأ على يديه ليقوم أغمي عليه.
فلبث ملياً ثم أفاق فكان أول سؤال سأله أن قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب) فوضعوا له الماء فاغتسل وجعلوا يصبون عليه الماء، حتى إذا شعر بشيء من النشاط أراد أن يقوم فأغمي عليه.
فلبث ملياً ثم أفاق، وكان أول سؤال سأله أن قال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك.
قال: ضعوا لي ماءً في المخضب فوضعوا له الماء، وجعلوا يصبون الماء البارد على جسده وأكثروا الماء حتى أشار إليهم بيده، ثم اتكأ على يديه ليقوم فأغمي عليه.
وأهله ينظرون إليه تضطرب أفئدتهم وتدمع أعينهم، والناس عكوف في المسجد ينتظرونه، فلبث مغمىً عليه ملياً، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟ قالوا: لا يا رسول الله! وهم ينتظرونك)
فتأمل في جسده فإذا الحمى قد هدته هداً، ذلك الجسد المبارك الذي نصر الدين وجاهد لرب العالمين، ذلك الجسد الذي ذاق من العبادة حلاوتها، ومن الحياة شدتها، الجسد الذي تفطرت منه القدمان من طول القيام، وبكت العينان من خشية الرحمان؛ عذب في سبيل الله وجاع وقاتل!!
لما رأى صلى الله عليه وسلم حاله وتمكن المرض من جسده التفت إليهم وقال: (مروا أبا بكر
فليصلِّ بالناس)
فيقيم بلال الصلاة، ويتقدم أبو بكر في محراب النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي بالناس، ولا يكادون يسمعون قراءته من شدة بكائه وحزنه، وانتهت صلاة العشاء، ثم اجتمع الناس لصلاة الفجر فيصلي بهم أبو بكر ، ويجتمع الناس بعدها للصلوات ويصلي أبو بكر بهم أياماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه.
فلما كانت صلاة الظهر أو العصر من يوم الإثنين وجد صلى الله عليه وسلم نشاطاً في جسده، فدعا العباس وعلياً فأسنداه عن يمينه ويساره، ثم خرج يمشي بينهما تخط رجلاه في التراب، وكشف الستر الذي بين بيته وبين المسجد، فإذا الصلاة قد أقيمت والناس يصلون، فرأى أصحابه صفوفاً في الصلاة، فنظر إلى وجوه مباركة، وأجساد طاهرة، أكثرهم قد أصيب في سبيل الله، منهم من قطعت يده، ومنهم من فقئت عينه، ومنهم من ملأت الجراحات جسده، طالما صلى بهؤلاء الأخيار وجاهد معهم، وجالسهم، كم ليلة قامها وقاموا معه! وأياماً صامها وصاموها! كم صبروا معه على البلاء وأخلصوا معه الدعاء، كم فارقوا لنصرة دينه الأهل والإخوان وهجروا الأحباب والأوطان، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
ثم ها هو اليوم يفارقهم إلى تلك الدار التي طالما شوقهم إلى سكناها، فلما رآهم في صلاتهم تبسم حتى كأن وجهه فلقة قمر، ثم أرخى الستر وعاد إلى فراشه صلى الله عليه وسلم وبدأت تصارعه سكرات الموت.
قالت عائشة : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، فجعل يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، قالت: فجعلت فاطمة تبكي وتقول: وا كرب أبتاه! فيلتفت إليها ويقول: ليس على أبيك كرب بعد اليوم،
قالت عائشة: فجعلت أمسح وجهه بيدي وأدعو له بالشفاء، وهو يقول: لا. بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل
ثم لما ضاق به النفس، واشتدت عليه السكرات جعل يردد كلمات يودع بها الدنيا، بل كان يتكلم فيما أهمه، يحذر من صور الشرك ويقول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .. (اشتد غضب الله على قوم جعلوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان من آخر ما قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).
ثم مات! نعم. مات سيد المرسلين وإمام المتقين، وحبيب رب العالمين، مات وليس أحد يطالبه بمظلمة، ولا آذى أحداً بكلمة، لم يتدنس بأموال حرام ولا غيبة ولا آثام، بل كان إلى الله داعياً، ولعفو ربه راجياً، يأمر بالصلاة وعبادة الرحمان، وينهى عن الشرك والأوثان،
قال الله: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ”.