عماد جاد والكتاتيب القرآنية
بقلم / جمال متولى الجمل

عماد جاد والكتاتيب القرآنية
في 11 / يناير المنصرم كتب الباحث والخبير السياسي الأستاذ / عماد جــاد – رسالة مفتوحة إلى الرئيس السيسي .
والكاتب نائب سابق وباحث متخصص في مركز الأهرام للدراسات السياسية والأستراتيجية – المدرسة البحثية المرموقة .
نعترف بالطبع بأنه – كالكثير من أبناء هذه المؤسسة المتميزة في رصدها وابحاثها المتنوعة ، يقف (سياسيا ) على ارض وطنية وينطلق منها – ومع انتمائه القبطي فهو من الفئة التي تعلى المصلحة العُليا للوطن على المصالح الفئوية ، ويشهد له انّه من الكُتاب المصريين الاقباط المناهضين للتطرف الديني اياً كان انتمائه أو مصدره – وكذلك يرفض ويناهض السياسات الطائفية لأقباط المهجر .
ومع ذلك يؤخذ عليه – في رأيي – انه احياناً وعند مناقشة المسائل الدينية يغيب عنه التفرقة بين ثوابت الأمة المصرية قِبطاً ومسلمين ، وبين الآراء والنظريات السياسية التي يتبناها .
بل ويغيب عنه الحِس السياسي وربما الوطني ، حينما يخلط بين ركائز وثوابت الأمة المصرية ، وبين رفضه لاتجاهات الجماعات الإسلامية ( السياسية ) كما يسميها .
لن اتطرق هنا للخلط العام والمستمر من الكاتب ( القبطي ) عماد جاد بين فقه وسلوك وممارسة عموم السلفيين – مع علمه – بأنهم فِرق وجماعات ، وليسوا فِرقة واحدة ، وفيهم بل أغلبهم من الوسطيين المعتدلين – وخاصة حزب النور – بشهادة الكثير من مركز أبحاث واراء مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، وبين جماعة الإخوان المسلمين ، مع انه وبعيداً عن الأبحاث والتقارير شاهد بعينه الممارسة الوطنية الرصينة والوسطية لحزب النور من خلال زمالتنا بمجلس شعب الثورة 2012 .
لكن أدخل في اخر ما كتبه في هذا الموضوع ، خلال مقالة كتبها بعنوان خطاب مفتوح إلى الرئيس السيسي – تم نشره وتداوله في عدد من المواقع ، ونقلته أنا من موقع الحرية في 11 / 1 / 2022 .
وطالب الرئيس فيه بمطالب عشرة أتفق ( شخصياً – وأعبر عن نفسي هنا ) معه في الأول وهو مقدمة المطالب ، وكذلك أتفق معه في المطلب الخامس إلى العاشر .
لكنه جاء في الثاني والثالث والرابع وقد خلط خلطاً ( عجيــناً ) بين التطرف وضياع الهوية المصرية !! وبين توجيه الرئيس السيسي لوزير الأوقاف بفتح ونشر كتاتيب القرآن الكريم ( وهو القرار الذي وفق فيه الرئيس ووزير الأوقاف – مع اختلافي أيضا مع الحكومة في الكثير من السياسات ) ، وقرار إضافة مادة التربية الدينية للمجموع في التعليم قبل الجامعي .. ووصل الحال به الى التهديد بأن الاستمرار في تنشيط كتاتيب القرآن الكريم وجدية التعليم الديني قد يؤدي إلى انقسام المصريين والتدخل الأجنبي !!! وهذا من أعجب ما في مقاله – إذ قال بالنص بعد رقم ( 1) :
2- مصر مصرية نريد الحفاظ على هويتها الوطنية ووقف الزحف السلفي الاخواني على المجال العام وقد اختبرنا خطورتهم بعد ٢٠١١، ما يجري هو تهيئة الارضية لهم في المستقبل القريب
3- اذا استمرت سياسات التديين العام ونشر الدروشة في المجتمع فإن النتيجة المنطقية هي تفسخ المجتمع ووضعه على طريق ما نشاهده اليوم في سوريا، وفي مقدمة ذلك قرارات واقتراحات وزير التعليم وافتتاح كتاتيب في عصر الذكاء الاصطناعي.
4- ان هذه المخاوف حقيقية واذا تحققت فسوف يكون ذلك نهاية مصر المصرية المتنوعة الفريدة ويمكن ان يفتح الباب لتدخلات خارجية لتقسيم البلد وهو ما نرفضه لكن مقاومة هذا السيناريو يكون عبر بناء التوافق الوطني وكسب الرضاء العام واستعادة الشعبية التي تمتعت بها في ٢٠١٢ – 2013(1) –
ولا ندري من أين ظهرت له حقيقة هذه المخاوف ، ومصر على مر تاريخها ، كان الكُتاب والدين أساس تعليمها كما هو معلوم تاريخياً ، دون أن نجد هذه المخاوف .
بل الصحيح الذي لا يُنكره الكاتب عماد جاد وأي منصف ، أن مقاومة التدخل الأجنبي في مصر انطلقت أول ما انطلقت من المساجد ، وكان قادة المقاومة لهم على مر التاريخ – مع غيرهم بالطبع – خريجي الكتاتيب من العلماء والمشايخ حتي الزعماء السياسيين المعاصرين وقتذاك .
ولعله لا يغيب عن ذاكرته وغيره أن الزعماء الوطنيين التاريخيين لمصر من خريجي هذه الكتاتيب مثل مصطفي كامل مكافح ومناهض المحتل داخليا وخارجيا ، واحمد عرابي الذي واجه القصر – الخاضع للمحتل والمؤتمِر بأمره – بالمطالب الوطنية للشعب المصري وعلى راسها خروج المحتل – خريج الكُتاب ،
حتي ثورة 19 فزعيمها سعد باشا زغلول خريج الكُتاب بل وكان الكُتاب أساس تفوقه في الحقوق والنشاط والعمل السياسي .
والمثقفين المعاصرين على رأسهم عباس العقاد ( والمعلوم انه لم يتجاوز الابتدائية في تعليمه ) خريج الكُتاب ، ( بلاش نقول العميد طه حسين ) .
ومن مشاهير القُراء في العالم العربي من لم يتحصل على أي قدر من التعليم سوي الكُتاب ، والاشهر في ذلك الشيخ محمد الطبلاوي رحم الله الجميع .
بل لا يستطيع أن ينكر أنّ غالب القوي الناعمة في مصر منذ قرون ، هم من خريجي الكتاتيب القرآنية المصرية .
والنماذج معروفة ومشهورة وأكثر من ان تحصي .
أُنعش ذاكرة الأستاذ عماد جاد ، بأن ما نذكره هو بعض شهادة معلم قبطي اشتغل محفظاً للقرآن الكريم في كتاتيب قرية طهنا الجبل بمركز المنيا محافظة المنيا جنوب مصر وكان كتابه الذي ورثه وورث تعليم المسلمين فيه كان في قلب كنيسة القرية .
بطل تلك الواقعة يدعى عياد شاكر حنا قبطي الديانة، يبلغ من العمر 85 عاماً، أما مهنته فتحفيظ القرآن الكريم والإنجيل في القرية.
وفي رواية تجربته لـ”العربية.نت”، يقول إنه ورث المهنة عن والده، حيث حفظ القرآن الكريم كاملاً عن والده الذي كان يخطب في المسلمين في المناسبات والجنازات القرآن تولى مهمة الكتاب وكان يقام بداخل الكنيسة .
ويضيف: بدأت تعليم الأطفال الذين أصبحوا الآن أطباء ومهندسين وصيادلة، القرآن الكريم واللغة العربية والرياضيات، وذلك طوال فترة دراستهم في المرحلة الابتدائية، وخلال تلك الفترة وصلني خطاب التعيين في الحكومة كمدرس، وكان من يشغل وظيفة حكومية في ذلك الزمان يشار له بالبنان، ويطلقون عليه لقب “الأفندي”، وهي رتبة قديمة لها وضعها الاجتماعي ولكن وجدت أنه من الصعوبة أن أترك مهنة والدي التي ورثتها عنه وأهمل الكُتاب الذي أسسه، لذلك رفضت التعيين واستمررت في مهمتي .
ثم يقول : الكتاتيب خرّجت أجيالا قوية متعلمة ومتفهمة لأمور دينها، وكانت تهيئ الأطفال لتلقي العلم والنبوغ فيه، يتخرجون رواداً وعلماء فى مختلف المجالات ومنها خرج كل مشاهير ومثقفي وعظماء مصر(2)
كذلك أقول للأستاذ عماد جاد أن المحتل الأجنبي هو الذي قلق من الكتاتيب القرانية في مصر ، وهو الذي خطط وسعي لتهميشها ثم إلغائها !! لأنها كانت الوقود والعُدة لمقاومته وجهاده .
فهل يسعدك أن تواصل مسيرة نشاط وإرادة المحتل في تحقيق هدفه وترويج اداعاءات يكذبها التاريخ .
فقد جاء في احدي الدراسات :
ابدي الاحتلال البريطاني لمصر، قلقا من تأثير الكتاتيب منذ اللحظة الأولى، حيث حوّلها من إشراف ديوان الأوقاف إلى ديوان المدارس عام 1889، حتى تكون تحت إشرافه .
وفي دراسة بعنوان “الكتاتيب؛ نشأتها وأنماطها وأثرها في تعلُّم وتعليم القرآن الكريم .. الكتاتيب في مصر أنموذجا”، يرى المؤلف مبروك بهي الدين الدعدر، أن الكتاتيب في مصر تعرضت للهجوم والتقويض بداية منذ الحملة الفرنسية عام 1798، ثم في فترة حكم محمد علي .
وأوضح أن التاريخ يشهد بالخير للكتاتيب بمصر، قائلا إن “الأطفال الذين تعلموا كتاب الله وحفظوه في الكتاتيب كانوا مصابيح هدى وهداية ورواد نهضة وعلم، والتاريخ يشهد بذلك ويقص حكايات رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، وعمر مكرم، وأحمد عرابي، ومصطفى كامل، والشيخ الشعراوي، والدكتور
السنهوري أبو الدساتير المصرية الحديثة .
وقال الازهر الشريف عبر مركز الفتوي :
إبعاد النشء عن القرآن الكريم وتعاليمه الراقية السمحة دعوة صريحة إلى ابعادهم عن دينهم وقيمهم وقطعهم عن لغتهم وثقافتهم وهويتهم كما انها تفتح الباب للأفكار والتفسيرات الهدامة (3)
أخيرا – أختم رسالتي للأستاذ عماد جـــاد بتذكيره بالمثل العربي ( اللي بيته من زجاج ما يحدفش الناس بالطوب ) .
ومع تقديري الكامل لقلمك السياسي ، لكن انتبه بأنك في بعض الأحيان – ومنها هذا الجزء في رسالتك للرئيس – ( والتي توافقت معك في أغلبها ) بغياب حسك السياسي والوطني انت الذي تدفع بمثل هذه الآراء إلى الانقسام وغرس بذور الفتنة لسبب بسيط للغاية وهو أنّه يمكننا كتابة مقالات ورسائل عن القلق من أسقفيات الشباب في الكنائس المصرية ، ولكننا نعي تمام الوعي ، ان تربية الكنيسة لأبنائها وشعبها في مراحل حياتهم ، واجب عليها أولاً .
ثانيا : لا يسعدنا أن يجد الإلحاد واللادين موضع قدم بين المصريين باختلاف انتمائهم الديني ، ولا التفسخ الذي ينتشر بعمد بين الشباب المصري مع التطور التكنولوجي الذي تتحدث عنه .
ويا ليتك تدرك قيمة واهمية ذلك .
____________________
(1)https://alhorianews.com/%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%AF-%D8%AC%D8%A7%D8%AF-%D9%8A%D9%88%D8%AC%D9%87-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A9
(2) القاهرة – أشرف عبد الحميد – موقع العربية بتاريخ 10 سبتمبر – 2016
https://www.alarabiya.net/last-page/2016/09/10/%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A-%D8%AD%D9%81%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%87%D9%84-%D8%B3%D9%85%D8%B9%D8%AA-%D8%B9%D9%86%D9%87-%D9%85%D9%86-%D9%82%D8%A8%D9%84%D8%9F-
(3) https://www.ajnet.me/politics/2022/6/2/%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D8%B6