تعرف على حبيبك النبي صلى الله عليه واله وسلم (691)
بقلم : جمال متولى الجمل
تعرف على حبيبك النبي صلى الله عليه واله وسلم (691)
غزوة بني قريظة (36)
بعضاً فوائد من غزوة بني قريظة
لهذه الغزوة المباركة فوائد وعبر نستفيد منها دائما ومن هذه الفوائد :
أولا : جواز قتالِ مَن نقض العهد – وقد جعل الإمام مسلم- رحمه الله- هذا الحكم بابا أسماه باب”جواز قتال من نقض العهد”، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان، وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.
وجاءت الشريعة الغراء بالحث على الحفاظ على العهود والوفاء التام بها .
قال عز وجل ناهيا عن الغدر والخيانة {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} الأنفال 27 وقال عز وجل {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} النساء 107 ولذلك كانت العقوبة في حق بني قريظة عادلة ، وكانوا أهلا لاستحقاقها بما اقترفوه من غدر وخيانة .
**- يقول ابن القيم رحمه الله:(وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، وأغلظهم كفرا ولذلك جرى عليهم ما لم يجري على إخوانهم) .
فاليهود موصوفون عبر التاريخ بصفات الغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق ، وإن الناظر إلى أحوالهم في زمننا الحاضر يرى ويدرك مدى انطباعهم بهذه الصفات ، وما يحصل لإخواننا في فلسطين أكبر شاهد على نقض العهود، واليهود لا تنفع معهم العهود والمواثيق والاتفاقيات ، لسان حالهم ومقالهم هو أنه لا يوجد وعود مقدَّسة وكثيرا ما اكتوى العرب والمسلمون بلظى نقضهم لما اتفق عليه من خلال المفاوضات والاجتماعات كما قال الله عز وجل {أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} البقرة 100.
ثانيا: جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم: قال النووي- رحمه الله-: (فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح الحكم، وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم، وأقام الحجة عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عادل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم.) قلت: ولهذا كان إسناد التحكيم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه ، كونه من الأوس وهم حلفاء لبني قريظة ، وسيرضون ويسلمون بحكمه ، دليل على جوازه حيثما لزم الاحتياج إليه ويتولاه من هو معروف بالعدالة والأمانة من المسلمين.كما أنه يجوز لولي الأمر إذا رأى المصلحة في المعاهدة مع غير المسلمين إبرامها وأن ذلك لا يعتبر من تولي الكافرين.
ثالثا: تأكد اليهود من نبوة محمد صلى الله عليه واله وسلم – لقد رَأيتُ من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود أنهم كانوا على يقين من نبوة محمد صلى الله عليه واله وسلم ، وعلى اطلاع تام على ما أثبتته التوراة من الحديثِ عنه وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيدا لعصبيتهم وتكبرهم، وأن الإسلام في عقيدته وعامة أحكامه إنما هو دين الفطرة البشرية الصافية، ينسجم في عقيدته مع العقل وينسجم في تشريعاته وأحكامه مع حاجات الإنسان ومصالحه، فلن تجد من عاقل سمع باسم الإسلام وألمَّ بحقيقته وجوهره ثم كفر به كفرا عقليا صادقا، إنما هو أحد شيئين، إما أنه لم يسمع بالإسلام على حقيقته وإنما قيل له عنه كلام زائف باطل، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره، فهو يأباه إباء نفسيا لحقد على المسلمين أو غرض أو هوى يخشى فواته ، ولهذا أخبرنا الله في القرآن أن خبر نبوة وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام قد جاءت في التوراة والإنجيل فقال عز وجل{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الصف 6، { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف 157.
رابعا: حكم القيام إكراما للقادم – أمرَ النبي صلى الله عليه واله وسلم الأنصار حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبا دابته أن يقوموا إليه تكريما له، ودل على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم.
**- وقد استدل عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم.
وقد فصلنا المسألة سابقاً .
خامسا: علو شأن وقدر سعد بن معاذ: حبا الله الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه بمزايا عديدة رفعت من شأنه ومرتبته عند الله عز وجل وعند رسوله عليه الصلاة والسلام وعند العباد .
وقد تجلت كراماته وقدره في استجابة الله تعالى لدعائه في بني قريظة وتطهير المدينة منهم ومن خبثهم ، وفي تحكيم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم له فيهم ، وفي محبة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم له ، وفي اهتزاز عرش الله العظيم لوفاته.
سادسا: تجليات الكرم والحِلم والحزم النبوي في غزوة بني قريظة ، يرى ويلمس ذلك كل من استعرض أحداث الغزوة ووقائعها ، ومن ذلك تحريه عليه صلى الله عليه واله وسلم للعدل والإصابة في ما نقل إليه من خبر نقض بني قريظة للعهد والميثاق الذي كان قد أبرمه معهم عندما دخل المدينة مهاجرا ، وهذا من شمائله أنه يتحرى الصدق ويتحقق من الأمر قبل الحكم ، وتأنيه الطويل في إصدار الحكم حتي تظهر البينة القاطعة جلياً دون أدني التباس مبتعدا عن إلصاق التهم دون تروي وتيقن ، وإن كان اليهود يصدق عليهم ما ينقل عنهم من نقض العهود وخيانة المواثيق والأعراف إلا أنه صلى الله عليه واله وسلم ، فلم يتحرك بعقاب الخونة إلا بعد نزول الوحي إليه يؤكد مانُسب إلى يهود قريظة من إتهام بالغدر والخيانة .
وبذلك أعطي أمته وخصوصا الدعاة منهم إلى الله درسا عمليا في عدم التسرع عند سماع الأخبار وأن الواجب التريث والتثبت من الحقائق.
وبعد التثبت واليقين ظهر حزمه صلى الله عليه واله وسلم دون تردد في الرد عليهم عندما عرضوا عليه عرضهم الأول بأن يعاملهم معاملة بني النضير بحيث يخرجون بأموالهم ونساءهم وأولادهم ، ويتركون السلاح ، أو يحقن دماءهم ويعطيهم نساءهم وأولادهم ويتركون أموالهم وسلاحهم ، فكان رده الرفض والحزم والتصميم على نزولهم على حكمه.
**- ويتبين لنا من هديه صلى الله عليه واله وسلم الحزم في موضعه واللين في موضعه وهذا من حكمته التي أودعها الله في صدره وقلبه.
ويتبين لنا اللين في هديه وخُلقه مع الأعداء وذلك من خلال العرض الثاني الذي عرضوا عليه فيه أن يرسل لهم أبا لبابة رضي الله عنه ليستشيروه في النزول على الحكم فأجابهم إليه وأرسله إليهم.
**- ومن كرمه وطيب خلقه صلى الله عليه واله وسلم ، فرحته بتوبة الله على أبي لبابة ، وهذا فن عظيم من فنون الدعوة إلى الله ، أن يتحلى الداعية بحبه الخير للناس فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ، ويعيشهم ظروفهم وأحوالهم حال السراء والضراء فيكون لدعوته صدى واثر فعال في حياتهم.
**- ومن كرمه وحلمه صلى الله عليه واله وسلم وطيب معشره إكرامه لأهل الفضل والخير والدعوة والبذل في سبيل الله ، حين أكرم الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه .
*- وكذا تقدير أهل العلم والفضل وتكريمهم ولا سيما علماء الشرع و الدعاة إلى الله عز وجل فهم ورثة الأنبياء والموقعون عن الله عز وجل.
ومن حلمه وجوده صلى الله عليه واله وسلم ، ما من به على الصحابي الجليل ثابت بن قيس رضي الله عنه حينما تردد عليه مراراً ليهبه الزبير بن باطا اليهودي وماله وأهله في يد سابقة له ( أي كونه كان صاحب معروف سابق ) عليه .
فأعطاه كل ذلك ، ومن هذا الخُلق النبيل يستقي الداعية إلى الله في فعل المعروف ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ففيه استمالة القلوب ومحبتها للداعي وما يدعوا إليه ، والنفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها ، والدعاة إلى الله أولى بهذا الخلق النبيل لعظم ما يحملونه من النور إلى الناس.
**- ومن كرمه وحلمه عدالته صلى الله عليه واله وسلم ، في تقسيم أموال بني قريظة ونسائهم وأبناءهم على المسلمين ، فأعطى وأكرم وعدل بنور من الله وإلهام.
سابعا: بيان فضل الله على أبي لبابة رضي الله عنه في قبول توبته ، وفضل أبي لبابة في صدق لجوئه إلى الله عزوجل ، فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيراً له فيما نرجو له عند الله سبحانه وتعالى .
**- وإن موطن العبرة في هذا الموقف تتجلى في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سراً حربيا خطيراً ، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح ، وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات ، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين ، وأن يستكتم اليهود أمره ( أي : يطلب منهم عدام الإفصاح عما ابداه لهم من رأي ) ، ولكنه تذكر رقابة الله وعلمه بما يسر ويعلن ، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } النساء 17.
وصلى الله تعالى وسلم وبارك علي سيدنا محمد واله وصحبه
بإذن الله تعالى نلتقي في الحلقة القادمة