تعرف على حبيبك النبي صلى الله عليه واله وسلم (721)
بقلم / جمال متولى الجمل

تعرف على حبيبك النبي صلى الله عليه واله وسلم (721)
بقلم : جمال متولى الجمل
سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على سيف البحر أو سرية الخبط .
وكانت في السنة السادسة أو قبلها قبل صلح الحديبية وذلك لأنه ورد في الحديث أنهم خرجوا ” لملاقاة قافلة تجارية لقريش ” ، وقيل :
لعل البعث لمقصدين : رصد عير قريش، وإظهار قوة المسلمين أمام حي من جهينة (1) ، وقال ابن سعد انها وقعت في رجب سنة 8 للهجرة ، ولا يُتصور هذا لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة.
وقد أنكر ذلك ابن القيم، وابن حجر، ورجّح ابن حجر أنه كان في السنة السادسة. (2)
استثمر المسلمون ما أصاب الأحزاب من فشل، وضيقوا على قريش الخناق الاقتصادي من جديد فأرسل النبي صلى الله عليه واله وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار لرصد قافلة لقريش قرب ساحل البحر .
تعتبر ( هذه السرية ) ، استمرارا لسياسة النبي صلى الله عليه واله وسلم العسكرية لإضعاف قريش، ومحاصرتها اقتصاديًّا على المدى الطويل، ولتعويض المهاجرين، ولو جُزءًا بسيطًا (من حقوقهم ) مما فقدوه من أموال ومتاع استولت عليها قريش عند مغادرتهم وطنهم مكة ( والتي حتي اللحظة لم يتسردوا منها شيئا) .
وحدد لهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، الهدف المنشود وهو رصد ( تتبع ) عير ( قافلة ) المشركين قافلة تجارية مساحلة عن طريقها المعتاد، وقد تمر بمنطقة نفوذ قبيلة جُهينة على ساحل البحر الأحمر.
■ تعرض السرية لأزمة تموينية حادة :
ونظرا للضائقة الاقتصادية التي كان يمر بها المسلمون في ذلك الوقت، فقد كان تموين هذا الجيش ضعيفا بحيث لم يجد لهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم غير جراب من تمر زودهم إياه، إضافة إلى أزوادهم الخاصة التي كانت في مجملها قليلة أيضا.
(وأثناء المسير الاقترابي) لموقع العمليات، فَنِي ( نفذ ) زاد ( طعام ومؤن ) السرية العام ، أمر القائد أبو عبيدة رضي الله عنه بجمع جميع الزاد الذي مع كل جندي وجمعهم في إناء واحد ) وذلك من أجل البركة في الطعام الواحد للجماعة ، وكذلك حتى يتساوى الكل في القوت فلا يتميز أحد عن أحد.
ورغم هذا الإجراء المنضبط من القائد الذكي إلا أن جرابا ( إناءً أو كيساً ) من تمر وهو مقدار ما تجمع من الزاد الخاص للجيش لم يكن يكفي جيشا مكونًا من ثلاثمائة رجل .
فكان أبو عبيدة يقوتهم ( يطعمهم) من هذا الجراب كل يوم “قبضة قبضة”( ملء كف اليد الواحدة – مثلاً – طوال اليوم )، ثم حينما قارب التمر على الانتهاء ، صدر امر ابوعبيدة ليكون نصيب الفرد الواحد في اليوم تمرة واحدة .
وقد أدرك الجند صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن.
عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ ( مثنى مزود أي جراببين – مثل الكيسين – يجعل فيه الزاد ) ، فَكَانَ يُقَوِّتُنَا ( يُطعمنا ) كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا حَتَّى فَنِيَ ، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ ( في اليوم الواحد) ، فَقُلْتُ ( وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، يسأل جَابِرِ ) : وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ؟ فَقَالَ ( جابر) : لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ ( أي : وحينما نفذ التمر تماماً ولم نعد نتحصل حتي التمرة في اليوم حزنا لفقدها… ( أهمية الشعور بإدراك قيمة النعمة وإن قَلّت )” صحيح البخاري
وفي رواية صحيح مسلم : لما سأل وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ: ” .. وما تغني تمرة ؟ قال جابر : “كنَّا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل” ، وكم هو رائع هذا الموقف المدهش حقّا والذي أدهش قبلنا وهب بن كيسان رحمه الله الذي سأل جابرا رضي الله عنه دهشًا: “ما تغني عنكم تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت (مؤثرا شاقا علينا، ولقد حزنا لفقدها ) “( كما في وراية البخاري ) .
▪︎ ومع ذلك لم يؤثر ذلك على معنويات الجيش، ويستسلموا للأمر الواقع بل فكروا في حيلة يُبقون على أنفسهم حيث اضطروا إلى أكل ورق الشجر .
قال جابر رضي الله عنه : وكنا نضرب بعصينا الخبط ( ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خَبَط ) ، ثم ( لكي يخففوا من جفاف هذا الورق) نبله بالماء فنأكله” لذلك سُميت السرية : سرية الخبط .
** جود وكرم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما :
وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من كرماء الصحابة المشهورين – وكرمه كرم متوارث عن أبيه وعائلته – فيروي في السيرّ :
أنّه اشتري من رجل من جُهينة – من ثلاث إلى ست نوق( جِمال صغيرة) ووعد البائع بسداد الثمن من تمرٍ له بالمدينة .
وقيل انّه استدان هذه النوق من رجل من جهينة عرفه وعرف اباه سعد بن عبادة ، ووعده بأنّ أباه سيسدد دَينَه ، إذا ما اتاه المدينة ، وكان معروف عن سعد بن عبادة رضي الله عنه شديد كرمه وسرعة وفائه للذمم .
ثم ذبح هذه النوق للجيش وطعموا منها طوال مدتهم ، حتي نهاه ابوعبيدة عن الاستدانة والذبح بعد ذلك ولم يأكل من هذه النوق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكراهيته لاستدانة قيس بن سعد ، خوفا من عدم وفاء قيس أو سعد لقيمتها ، حتي أنهم بعدما عادوا للمدينة عاتبه في ذلك سعد بن عبادة – رضي الله عنهم جميعا – عتاباً شديداً(3) .
■ الفرج العظيم والبركة من الله تعالى على جيش هذه السرية :
ولم يكن الله عز وجل ليتخلى عن جند له خرجوا في سبيله ابتغاء مرضاته، وطمعاً فيما عنده من الأجر، فبينما هم كذلك من الجَهد والجوع الشديدين ( ونفاد كل الطعام وكل سُبل الحصول عليه) إذ زفر البحر زفرة ( هبّت عاصفة بحرية ) أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطىء، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: “وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ( التل من الرمل – يعني حجم الحوت) ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر (نوع من أنواع السمك الضخم العاتي وكما قيل عنه – حوتا ضخماً – ولا عجب إنها قدرة الله تعالى وبركته لعباده المجاهدين ) – وقد شبهه أبو عبيدة رضي الله عنه بالثور ، وحدث خِلاف بينهم في إباحة اكله أو حُرمة الأكل منه – نظراً لخروجه في العاصفة البحرية ميتاً ، وحسم ابوعبيدة الخِلاف بإجازة الأكل منه ولكن على سبيل الاضطرار ، وليس الإباحة ، ولكن لما رجعوا المدينة وحكوا الحادثة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، أكد على إباحة أكل ميتة البحر حتي طلب منهم ان يحضروا له بعضا من لحمه تأكيداً على الإباحة . (4) (*).
وانتهت السرية بعد هذه المدة الطويلة نسبياً وبعد هذه الشدائد دون أن يتالقوا مع القافلة التجارية لقريش ، والإكتفاء بإظهار قوة المسلمين لقبيلة جُهينة وشدة بأسهم على من يعتدي عليهم ، إذ كان ذلك احد أهداف هذه السرية كما في ذكر بعض أهل السّير .
وصلى الله تعالى وسلم وبارك علي سيدنا محمد واله وصحبه
بإذن الله تعالى نلتقي في الحلقة القادمة
_________________
(1) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية – المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي .
(2) فتح الباري – لابن حجر رحمه الله – و كتاب : السريا والبعوث حول المدينة ومكة وقال : ولم توضح لنا غالبية الروايات، وخاصة الصحيحة منها تاريخ محدد لهذه السرية. وقد أغرب الشامي حين ذكر أن جمهور أئمة المغازي حددوا تاريخها برجب في السنة الثامنة الهجرية ؛ حيث لم يقل بذلك غير الواقدي ومن تابعه.
وقد رد كل من ابن القيم، وابن حجر هذا القول باعتبار تلك الفترة فترة هدنة مع قريش، فالظاهر أن ذلك وهم غير محفوظ، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل الهدنة .
(3) وذكر الواقدي في روايته أن قيس بن سعد رضي الله عنه استدان هذه الجزر من رجل جهني، وأن أبا عبيدة رضي الله عنه نهاه قائلا: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك. الواقدي، مغازي (2/774-775) ، هذا وقد رجح ابن حجر هذا السبب عند ذكر الاختلاف في سبب نهي أبي عبيدة لقيس، فقال: قيل لخشية أن تفنى حمولتهم، وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته، وليس له مال، فأريد الرفق به، وهذا أظهر والله أعلم، فتح الباري (8/81) أ.ه السرايا والبعوث حول المدينة ومكة .
(4) سمكة كبيرة يتخذ من جلدها التراس، قال الأزهري: العنبر سمكة بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين دراعا يقال لها بالة، وليست بعربية، ويقال إن العنبر المشموم رجيعها .. قال الحلبي: وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع، وعرضها مائة وستون ذراعا وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر.
وحوت العنبر SPERMWHALE مميز الشكل والهيئة، ومظهره ملتوٍ، ويتميز عن غيره من الحيتان بالرأس الضخم .. وهو من أكبر أنواع المسننات من الحيتان حيث يتراوح طول الذكر منه خمسة عشر إلى عشرين مترا، ويزن حوالي من خمسة وثلاثين إلى ستين طنًّ، والأنثى أصغر من الذكر،. والعنبر من الكائنات البحرية الغواصة فهو يستطيع الغوص إلى عمق ألف متر أو أكثر، وحوت العنبر متواجد باستمرار في منطقة البحر العربي، وهنالك شواهد تدل على مشاهدته في البحر الأحمر حيث ذكر شهود عيان أنهم رأوه في منطقة جيزان عدة مرات، ولا تعرف الأسباب العلمية التي تؤدي بمثل هذه الحيتان الضخمة إلى الظهور في البحار القليلة العمق نسبيا كالبحر الأحمر، ربما بسبب تعطل أجهزة الاتصال لديها، أو لكبر سنها، وربما سبب بحث الذكر عن أنثاه. وبغض النظر عن هذه الشواهد والأسباب فإن ورود الخبر في الصحيحين يُغنينا عن الاستشهاد بغيرهما، فالخبر صحيح، وظهور مثل هذا الحوت الضخم للصحابة في تلك المنطقة غير المألوفة بالنسبة لأمثاله يُعد كرامة أكرمهم بها الله ورزقا أخرجه لهم كما أخبرهم بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه واله وسلم والكرامة والمعجزة تُصنَّف في عِدد خوارق العادات، ولكن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير. انظر الفيروز آبادي، القاموس، وابن منظور، لسان مادة: عنبر، وانظر ابن حجر، فتح (8/80) ، والحلبي، سيرة (3/203) ، ومنير البعلبكي: المورد قاموس انكليزي – عربي (ص: 886) والثدييات البحرية، مذكرة من جمع الدكتور محمد موسى العمودي (ص: 14) وكلقاء شخصي معه.
*) بتصرف كبير من كتاب السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة (دراسة نقدية تحليلية) – المؤلف: د بريك بن محمد بريك أبو مايلة – اشراف د. أكرم ضياء العمري .